سورة فصلت - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فصلت)


        


{وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم} فدللناهُم على الحقِّ بنصبِ الآياتِ التكوينيةِ وإرسالِ الرسلِ وإنزالِ الآياتِ التشريعيةِ وأزحنَا عللَهمُ بالكليةِ وقد مرَّ تحقيقُ مَعنى الهُدى في تفسيرِ قولِه تعالى: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} وقرئ: {ثمودَ} بالنصبِ بفعلِ يفسرُه ما بعدَهُ ومنوناً في الحالينِ وبضمِّ الثاءِ {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} أي اختارُوا الضلالةَ على الهدايةِ {فَأَخَذَتْهُمْ صاعقة العذاب الهون} داهيةُ العذابِ وقارعةُ العذابِ والهُون الهَوانُ وصفَ به العذابُ مبالغةً أو أُبدلَ منْهُ {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} منَ اختيارِ الضلالةِ {وَنَجَّيْنَا الذين ءامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ} منْ تلكَ الصاعقةِ {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء الله} شروعٌ في بيانِ عقوباتِهم الآجلةِ إثرَ بيانِ عقوباتِهم العاجلةِ. والتعبيرُ عنهم بأعداءِ الله تعالى لذمِّهم والإيذانِ بعلةِ ما يحيقُ بهم منِ ألوانِ العذابِ، وقيلَ: المرادُ بهم الكفارُ من الأولينَ والآخرينَ ويردُّه ما سيأتِي من قولِه تعالى: {فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الجن والإنس} وقرئ: {يَحْشُر} على بناءِ الفاعلِ ونصبِ أعداءُ الله وبنونِ العظمةِ وضمِّ الشينِ وكسرِهَا {إِلَى النار} أيْ إلى موقفِ الحسابِ إذْ هناكَ تتحققُ الشهادةُ الآتيةُ لا بعد تمامِ السؤالِ والجوابِ وسَوقهم إلى النَّارِ والتعبير عنه بالنَّارِ إما للإيذانِ بأنَّها عاقبةُ حشرِهم وأنهم على شرفِ دخولِها وإما لأنَّ حسابَهُم يكونُ على شفيرِها. ويومَ إما منصوبٌ باذكُرْ أو ظرفٌ لمضمرٍ مُؤخرٍ قد حُذِفَ إيهاماٍ لقصورِ العبارةِ عن تفصيلِه كَما مرَّ في قولِه تعالَى: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} وقيل: ظرفٌ لما يدلُّ عليه قولُه تعالى {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي يُحبسُ أولهم على آخِرِهم ليتلاحقُوا وهو عبارةٌ عنْ كثرتِهم وقيل: يساقُون ويُدفعون إلى النَّارِ. وقولُه تعالَى {حتى إِذَا مَا جَاءوهَا} أي جميعاً غايةٌ ليُحْشَرُ أو ليوزعونَ أي حتَّى إذَا حضرُوها. ومَا مزيدةٌ لتأكيدِ اتصالِ الشهادةِ بالحضورِ {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وأبصارهم وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في الدُّنيا من فنونِ الكفرِ والمعاصِي بأنْ يُنطقَها الله تعالى أو يظهرَ عليها آثارَ ما اقترفُوا بهَا. وعن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهما أنَّ المرادَ بشهادةِ الجلودِ شهادةُ الفروجِ وهو الأنسبُ بتخصيصِ السؤالِ بَها في قولِه تعالى {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} فإن ما تشهدُ به من الزنا أعظمُ جنايةً وقبحاً وأجلبُ للخِزي والعقوبةِ مما يشهدُ به السمعُ والأبصارُ من الجناياتِ المكتسبةِ بتوسُّطِهما. وقيلَ: المرادُ بالجلودِ الجوارحُ أي سألُوها سؤالَ توبيخٍ، لما رُوي أنَّهم قالُوا لها فعنكُنَّ كنا نناضِلُ، وفي روايةٍ بُعداً لكُنَّ وسُحْقاً، عنكنَّ كنتُ أجادلُ. وصيغةُ جمعِ العقلاءِ في خطابِ الجلودِ وفي قولِه تعالى: {قَالُواْ أَنطَقَنَا الله الذى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء} لوقوعِها في موقعِ السؤالِ والجوابِ المختصَّينِ بالعقلاءِ أي أنطقنَا الله الذي أنطقَ كلَّ ناطقٍ وأقدرنا على بيانِ الواقعِ فشهدنَا عليكم بمَا عملتُم بواسطتِنا من القبائحِ ما كتمناهَا.
وقيلَ: ما نطقنَا باختيارِنا بلْ أنطقنَا الله الذي أنطقَ كلَّ شيءٍ وليسَ بذاكَ لما فيهِ من إيهامِ الاضطرارِ في الإخبارِ. وقيلَ: سألُوها سؤالَ تعجبٍ فالمَعْنى حينئذٍ ليس نطقُنا بعجبٍ من قُدرةِ الله الذي أنطقَ كلَّ حَي. {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فإن من قدرَ على خلقِكم وإنشائِكم أولاً وعلى إعادتِكم ورجْعِكم إلى جزائِه ثانياً لا يُتعجبُ من إنطاقِه لجوارِحِكم. ولعل صيغةَ المضارعِ مع أنَّ هذهِ المحاورةَ بعدَ البعثِ والرجعِ لَمَّا أنَّ المرادَ بالرجعِ ليسَ مجردَ الردِّ إلى الحياةِ بالبعثِ بلْ مايعمُّه وما يترتبُ عليهِ منَ العذابِ الخالدِ المترقَّبِ عندَ التخاطبِ على تغليبِ المتوقعِ على الواقعِ على أنَّ فيه مراعاةَ الفواصلِ.


وقوله تعالى: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أبصاركم وَلاَ جُلُودُكُمْ} حكايةٌ لما سيقالُ لهُمْ يومئذٍ من جهتهِ تعالى بطريقِ التوبيخ والتقريعِ تقريراً لجوابِ الجلودِ أي ما كنتُم تستترونَ في الدُّنيا عند مباشرتِكم الفواحشَ مخافةَ أن تشهدَ عليكُم جوارِحُكُم بذلكَ كما كنتُم تستترونَ من الناسِ مخافةَ الافتضاحِ عندهم بلْ كنتُم جاحدينَ بالبعثِ والجزاءِ رأساً {ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا تَعْمَلُونَ} من القبائحِ المخفيةِ فلا يُظهرها في الآخرةِ ولذلكَ اجترأتُم على ما فعلتُم، وفيهِ إيذانٌ بأنَّ شهادةَ الجوارحِ بإعلامِه تعالَى حينئذٍ لا بأنَّها كانتْ عالمةً بما شهدتْ به عند صدورِه عنهم. عن ابنِ مسعودٍ رضيَ الله عنه: كنتُ مستتراً بأستارِ الكعبةِ فدخلَ ثلاثةُ نفرٍ، ثقفيانِ وقرشيٌّ، أو قرشيانِ وثقفيٌّ فقال أحدُهم أترونَ أنَّ الله يسمعُ ما نقولُ قال الآخرُ يسمعُ إنْ جهَرنا، ولا يسمعُ أنْ أخفينَا فذكرتُ ذلكَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فأنزلَ الله تعالَى: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ} الآيةَ. فالحكمُ المحكيُّ حينئذٍ يكونُ خاصَّاً بمن كانَ على ذلكَ الاعتقادِ من الكَفَرةِ، ولعلَّ الأنسبَ أنْ يرادَ بالظنِّ مَعْنى مجازيٌّ يعمُّ معناهُ الحقيقيَّ ومَا يَجري مَجراهُ من الأعمالِ المنبئةِ عنْهُ كما في قولِه تعالَى: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} ليعمَّ ما حُكي من الحالِ جميَع أصنافِ الكَفَرةِ فتدبرْ.


{وَذَلِكُمْ} إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ منْ ظنِّهم، وما فيهِ من مَعْنى البُعدِ للإيذانِ بغايةِ بُعدِ منزلتِه في الشرِّ والسوءِ وهُو مبتدأ. وقولُه تعالى: {ظَنُّكُمُ الذى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ} خبرانِ لهُ ويجوزُ أن يكونَ ظنُّكُم بدلاً وأرداكُم خبراً. {فَأَصْبَحْتُم} بسببِ ذلكَ الظنِّ السوءِ الذي أهلككُم {مّنَ الخاسرين} إذْ صارَ ما مُنِحوا لنيلِ سَعادةِ الدارينِ سبباً لشقاءِ النشأتينِ {فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ} أي محلُّ ثُواءٍ وإقامةٍ أبديةٍ لهم بحيثُ لا براحَ لهم منهَا. والالتفاتُ إلى الغَيبةِ للإيذانِ باقتضاءِ حالِهم أن يُعرضَ عنهم ويُحكى سوءُ حالِهم لغيرِهم، أو للإشعارِ بإبعادِهم عن حيزِ الخطابِ وإلقائِهم في غايةِ دركاتِ النارِ. {وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ} أي يسألُوا العُتْبَى وهُو الرجوعُ إلى ما يحبونَهُ جزعاً مما هُم فيِه. {فَمَا هُم مّنَ المعتبين} المجابينَ إليَها، ونظيرُه قولُه تعالى: {سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} وقرئ: {وإنْ يَسْتعتبُوا فما هُم من المعتبِين} أيْ إنْ يسألُوا أن يُرضوا ربَّهم، فما هُم فاعلونَ لفواتِ المُكنةِ.
{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ} أيْ قدّرنا وقرنّا للفكرةِ في الدُّنيا {قُرَنَاء} جمعُ قرينٍ أي أخداناً من الشياطينِ يستولُون عليهم استيلاءَ القيضِ على البيضِ وهو القشرُ وقيل: أصلُ القيضِ البدلُ ومنه المقايضةُ للمعاوضةِ. {فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} مِن أمورِ الدُّنيا واتباعِ الشهواتِ {وَمَا خَلْفَهُمْ} من أمورِ الآخرةِ حيثُ أرَوهم أنْ لا بعثَ ولا حسابَ ولا مكروَه قطُّ. {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول} أيْ ثبتَ وتقررَ عليهم كلمةُ العذابِ وتحققَ موجبُها ومصداقُها، وهو قولُه تعالَى لإبليسَ: {فالحق والحق أَقُولُ لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} وقولُه تعالَى: {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} كما مرَّ مِراراً. {فِى أُمَمٍ} حالٌ من الضميرِ المجرورِ أي كائنتينَ في جملةِ أممٍ وقيلَ: فِي بمعْنى مَعَ، وهَذا كما ترَى صريحٌ في أنَّ المرادَ بأعداءِ الله تعالى فيما سبقَ المعهودونَ من عادٍ وثمودَ لا الكفارُ من الأولينَ والآخرينَ كما قيلَ.
{قَدْ خَلَتْ} صفةٌ لأممٍ، أي مضتْ {مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الجن والإنس} على الكُفر والعصيانِ كدأبِ هؤلاءِ {إِنَّهُمْ كَانُواْ خاسرين} تعليلٌ لاستحقاقِهم العذابَ، والضميرُ للأولينَ والآخرينَ. {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} من رؤساء المشركين لأعقابهم أو قالَ بعضُهم لبعضٍ {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان} أي لا تُنصتوا له {والغوا فِيهِ} وعارِضُوه بالخُرافاتِ من الرجزِ والشعرِ والتصديةِ والمُكاءِ، أو ارفعُوا أصواتَكم بَها لتشوشُوه على القارىءِ. وقرئ بضمِّ الغينِ والمَعْنى واحدٌ، يُقالُ لَغَى يَلْغَى، كلقِي يَلْقَى. ولَغَا يلغُو، إذا هَذَى {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} أي تغلبونَهُ على قراءتِه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6